يلتزم الناس بالقوانين حرصاً على سمعتهم ومصلحتهم أولاً، وخوفهم من العقوبات المترتبة على كسرها ثانياً.. فلا أحد يقبل بالفوضى، ولا أحد يرغب بدخول السجن، ولا أحد يريد العيش في مجتمع يأكل القوي فيه الضعيف..

تأتي العقوبات والقوانين في المركز الثاني لأنه يمكن لضعاف النفوس التحايل عليها ولعلية القوم كسرها أو إعادة تفسيرها.. لهذا السبب يجب أن تصاغ القوانين بدقة ووضوح، وتطبق العقوبات بحزم وسرعة ودون محاباة.. فالقضية تتجاوز الأمن وحفظ الحقوق، إلى ترسيخ أخلاقيات الفرد وتعزيز نزاهة المجتمع..

إذ لا يمكنك أن تظل محترماً لفترة طويلة في بيئة لا تحترم القوانين.. تصبح مظلوماً ومهضوم الحق إن كنت وحدك من يلتزم بالأنظمة أو تطبق عليه التشريعات.. في عام 2008 قررت الانتقال إلى الرياض تجاوباً مع رغبة زوجتي في إكمال تخصصها الطبي في مستشفى الحرس الوطني.. انتقلنا جميعنا بما في ذلك الأطفال والسائق وشغالتان آسيويتان.. في الأسبوع الأول هربت إحدى الشغالتين فقدمت بلاغاً رسمياً لم أجد له نتيجة.. وبعدها بشهر هربت الشغالة الثانية فقدمت بلاغاً آخرَ بلا فائدة.. بحثت في مكاتب الاستقدام حتى عثرت على شغالة ثالثة يرغب كفيلها بالتنازل عنها.. وبعد دفع مبلغ مهول اختلفنا معها فأعدتها للمكتب الذي وعدني بالبحث عن كفيل لها.. وبعد أسبوعين استلمت منه رسالة تخبرني بأن شغالتي هربت (وما أظنه إلا كاذباً) وأن المكتب لا يتحمل مسؤولة هربها.. وبعدها بفترة وصلتني الشغالة “الرابعة” التي طلبتها بشكل نظامي منذ هربت الأولى..

وطوال هذه الفترة كنت نظامياً أتقيد بالأنظمة الرسمية والقوانين المرعية حتى هربت الشغالة الرابعة بدورها.. حينها فقط أدركت أنني سأصبح مظلوماً ومهضوم الحق لو بقيت وحدي من يتقيد بالأنظمة والقوانين.. لن يعوض أحد خسائري المادية أو يضمن عدم هروب الشغالة الخامسة إن كررت التجربة.. اضطررت مكرهاً أخاك لا محتال إلى استئجار العاملات غير النظاميات من المكاتب غير المصرح لها (ولا تخبروني أن وزارة العمل لا تعلم بوجودها).. وهذه التجربة مجرد مثال على أن المواطن يظل متقيداً بالقوانين حتى يشيع كسرها والتهاون بتطبيقها فيشعر بالظلم إن استمر بالتقيد بها.. لا يمكنك أن تطالب “الفرد” بالتقيد بالأنظمة والقوانين والشائع هو التحايل والتملص وكسرها بالواسطة.. لا يمكنك أن تطالب عامة الناس بحفظ المال العام، وهم يرون خاصتهم يغرفون منه غرفاً.. لا يمكن أن يظل الإنسان محترماً وملتزماً في وسط يعتبر التهرب شطارة والالتزام سذاجة..

الناس يلتزمون بالأنظمة والقوانين ويقبلون وجودها بطيب خاطر حين يتم تطبيقها على الجميع دون استثناء.. يبدأون بالتملل والتمرد واستغلال الفرص حين يدركون أن هناك من يتحايل عليها.. يمكنك تشبيه المجتمع بالطابور الذي يقبل الناس الوقوف فيه طواعية (طالما) انتظم فيه الجميع ولم يخرقه أحد.. مجرد رؤيتهم لمن يتجاوزهم يثير غضبهم ويفرط عقد انتظامهم ويخلق الفوضى بينهم.. لاحظ كيف يتقيد المواطن السعودي بالقوانين والأنظمة حين يسافر للخارج، في حين لا يفعل ذلك بعد عودته لأرض الوطن.. والسبب رؤيته للغالبية حوله يخرقون الطابور ويتجاوزن الأنظمة ويحتالون على القوانين لدرجة يشعر بالغبن إن تقيد بها وحده.. يدرك من تجاربه السابقة أن تداخل القوانين وتعقيد التشريعات تجعل الالتفاف عليها أو كسرها بالواسطة أسرع طريقة لتجاوزها…

باختصار شديد؛

إن أردت مجتمعاً يلتزم بالقوانين والتشريعات احرص على تطبيقها دون استثناء.. فحين يخرق أحدهم “الطابور” ينتظر الجميع من صاحب الشأن معاقبته.. فإن عاقبه بحزم ودون مجاملة سينتظم أكثر ويتماسك لفترة أطول، وإن مرت دقيقتان دون فعل شيء سينفرط عقد الطابور وتعم الفوضى ويأكل القوي الضعيف.


المصدر: صحيفة الرياض العدد 17298 مقالة لـ فهد عامر الأحمدي