طالب يرمي أوراقاً في ساحة المدرسة، وآخر ينثر المخلفات أمامه وقطع متناثرة من بقايا «فسحة» كل يوم، وبعد انطلاق جرس الحصة الرابعة يعود الطلاب لفصولهم ببطء شديد متململين إلى فصولهم ساحقين ما تمر عليه أرجلهم من بقايا أكلهم.. يتكرر نفس المشهد ويكبر وينتفخ في الشارع والشاطئ والمتنزه.. امتلاء بسلوك مشين غارق في «مهملات» إنسانية تشترك في انتهاك مساحة من وطن وثقافة مجتمع ووعي أمة!.

صور ومشاهد تتكرر يومياً حتى غدت عادات سيئة، واتكالية متكلسة تكتسب في اللاوعي ومنه، ليس هناك قوانين «بيئية» ضابطة، لا يوجد التزامات تربوية أسرية أو مدرسية أو اجتماعية لتغييرها أو إيقافها، واقع مؤسف؛ ومواجهته وعدم الهروب منه هو أحد الحلول العملية.

تبدت لي تلك المشاهدات بدهيةً، أننا إن أردنا مجتمعاً وأجيالاً تتمتع بثقافة المسؤولية الذاتية، فلن ننجح ونحقق أهدافها إلا بإيجاد إرهاصات وأسس تقوم عليها في إنجاز فرض التزام وقانون، وغرس عادات سلوكية اجتماعية تظهر المسؤولية نحو الحياة والنظام والبيئة والمجتمع والوطن ومقدراته.

وعندما أتجاوز النظام وغياب القدوة ومسببات أخرى -المساحة لا تكفيها-؛ فإنني سأنطلق إلى جانب اجتماعي تربوي تكافلي يتجه نحو مدى ممارسة الأعمال التطوعية والاجتماعية والبيئة ذات المسؤولية الجمعية والفردية في مؤسساتنا التربوية ومدى انعكاسها على تربية أبنائنا كمسؤولين نحو ذواتهم ومجتمعهم ووطنهم وحيواتهم.. ويثبت تأثيره ومفعوله الإنساني ما وصلت إليه ممارسات دول كثيرة انطلقت مشاركات أبنائها من المدارس ليتسابقوا تطوعاً على رسم أجمل لوحات بريشة إنسانية تحترم الجدران والشوارع والزوايا والأركان.. ففي كندا وحدها مايقارب 91% من طلاب المدارس والجامعات هم عماد العمل التطوعي بشتى أنواعه، وفي ألمانيا تصل النسبة إلى 45%، أما دولة كبريطانيا فقد بلغت ساعات العمل التطوعي الرسمي فيها 90 مليون ساعة عمل في الأسبوع، لتفيض 40 مليار جنيه إسترليني سنوياً عليهم، بدأت من المدارس والجامعات حتى خدمة المجتمع «Community Service».

وإذا انتقلنا لليابان، فعملية التأهيل الاجتماعي في المدارس شكلت التزام المجتمع الياباني نفسه؛ فبعد كل «فسحة» مدرسية ينطلق الطلاب بجميع مراحلهم بحمل أدوات النظافة كرمز يحملونه معهم بين دورات المياه والممرات والفصول، لتنظيف مخلفاتهم في «عشرين دقيقة» جعلت وطناً لم يحرص على تخريج أجيال بارعين فقط، بل وأذكياء اجتماعياً ومسؤوليةً والتزاماً!.

للأسف تبقى فكرة الأعمال الاجتماعية والتطوعية بدائية في مدارسنا، لأن هناك معوقات تبدأ من المؤسسة التربوية التي لا تجد هماً سوى حرص أبنائنا على العملية التعليمية فقط –إن كانت- دون توجيه اهتماماتهم إلى قيمة العمل الاجتماعي والبيئي، يقابلها جهود محدودة من الأنشطة الطلابية في المدارس والتي تكاد تخلو من أي تحفيز أو حث على تلك الأعمال حتى لو بتقديم المساعدة للراغبين وتشجيعهم وتوجيههم للأعمال التي تتفق مع استعداداتهم وخبراتهم واتجاهاتهم.

القضية هنا باختصار، ليست سوى غرس جميل لعمل نبيل تؤسس به النفوس منذ الصغر داخل الأسرة والمدرسة والمجتمع لتكوين عادات خلاّقة لعماد وطننا وعمقه في «عشرين دقيقة» فقط، وكما قال افلاطون يوماً.. «إن الاتجاه الذي يبدأ مع التعلّم سوف يكون من شأنه أن يحدد حياة المرء في المستقبل!».

أما الحل باختصار وببساطة أشد ودون «ترف» تربويّ، هو فرض العمل التطوعي الاجتماعي البيئي في مناهجنا ومدارسنا وجامعاتنا، حيث لا ينتقل الطالب لمرحلة دراسية أخرى، أو يتخرج في الجامعة إلا بقضاء ساعات محددة في العمل التطوعي الذي تستحقه إنسانيتنا ووطننا!.


المصدر: صحيفة الرياض العدد 17473 مقالة لـ د. محمد المسعودي