لم تزل العدالة تشكل هاجسا مهيمنا على الوعي الاجتماعي منذ المجتمعات البدائية القديمة والى يومنا هذا، على اعتبار ان مضمونها يحقق رضا الضمير وقناعة الذات، ومن يتمعّن في التحولات الفكرية والثقافية والاجتماعية والصراعات والحروب وما نتج عنها من اهتمام بحقوق الانسان، يصل إلى قناعة واضحة تتمثل في وجود قواسم مشتركة بين ما جاءت به الأديان وما توصلت إليه الثقافات من مفاهيم ومبادئ، فغايتهما واحدة، وان اختلفت المرجعية والظروف التاريخية.

طبعا يرى البعض أن حقوق الإنسان في الفكر الغربي الحديث كانت قد صدرت عن (العقل)، في حين أنها صدرت في الإسلام عن (النص).

وفي هذا بعض الصحة، إنما الأكثر صحة هو أن الشريعة الإسلامية جاءت بأحكام شمولية تكرس مفاهيم العدل والتسامح والإخاء والمساواة، وبالتالي فحقوق الإنسان وحدة متماسكة وغير قابلة للتجزئة يتمتع بها جميع الناس دون تمييز، مرتكزين في ذلك على النص القرآني الكريم (ولقد كرمنا بني ادم).

ان مفهوم حقوق الإنسان شكّل في وقتنا الراهن مصدراً جديداً للشرعية لأي نظام سياسي، بل وتحديا للأفكار التقليدية للمدرسة الواقعية حول العلاقات الدولية، ما نتج عنه تحول في مفهوم الدولة وواجباتها.

ومن النادر أن يخلو بلد من البلدان من انتهاكات حقوق الإنسان بما فيها البلدان المتقدمة وتلك التي حققت طفرات نوعية في تنميتها الاقتصادية ومؤسساتها الدستورية، وأشاعت الحريات بمختلف مضامينها وقد تتفاوت المعايير من بلد إلى آخر إلا أن الدول النامية كان لها النصيب الأكبر من تلك الانتهاكات.

وفي هذا السياق جاء مشروع نظام «المحكمة العربية لحقوق الإنسان» بمبادرة من مملكة البحرين، وتطورت المبادرة لتأخذ طريقها إلى جامعة الدول العربية التي أقرت المشروع وسمّت المنامة مقراً لها.

” الموافقة السياسية على هذه الخطوة الحقوقية تعني استشعار العرب بضرورة ايجاد محكمة تتخذ قرارات ملزمة بدلا من لجنة حقوق الانسان الحالية التابعة للجامعة العربية التي تُعد هيئة شبه قضائية، ولا تقدم سوى توصيات فقط. وهذا يعني الاتجاه بمسار أكثر رقيا فيما يتعلق بتعزيز وحماية حقوق الانسان “

ان أهمية القرار في تقديري تكمن في استشعار صانع القرار العربي بأهمية وجود كيان ومركز عدالة يصون حقوق الانسان. هذا المسار يُعد تحولا لافتا في العقلية السياسية العربية لان ملف حقوق الانسان في العالم العربي ظل هامشيا وظلاميا ان جاز التعبير ولم يحظ باهتمام مواز للملفات الأخرى من تنمية ونهضة. ويجدر الإشارة هنا الى وجود تجارب ماثلة وجهود منظمات دولية نحو تأسيس محاكم لحقوق الانسان، فقد أسست منظمة مجلس أوروبا ومقرها مدينة ستراسبورغ الفرنسية محكمة أوروبية لحقوق الإنسان تضم 47 قاضيا. واعتمدت منظمة الدول الأميركية في واشنطن تأسيس محكمة أميركية لحقوق الإنسان تضم 7 قضاة ومقرها مدينة سان خوسيه في جمهورية كوستاريكا. كما أسس الاتحاد الأفريقي محكمة أفريقية تضم 11 قاضيا ومقرها مدينة أروشا بجمهورية تنزانيا.

وفي ظل هذا التوجه العالمي، جاء إنشاء محكمة عربية لحقوق الإنسان ليؤكد وجود إرادة سياسية تدفع باتجاه تعزيز احترام حقوق الإنسان العربي وحرياته الأساسية، وتمثل ضمانة مهمة وآلية مناسبة لصون وحماية الحقوق على الصعيدين التشريعي والقضائي. كما تسد النقص الموجود حالياً في الميثاق العربي لحقوق الإنسان فضلا عن تحقيق التكامل بينه وبين المعايير الدولية لحقوق الإنسان.

الموافقة السياسية على هذه الخطوة الحقوقية تعني استشعار العرب بضرورة ايجاد محكمة تتخذ قرارات ملزمة بدلا من لجنة حقوق الانسان الحالية التابعة للجامعة العربية التي تُعد هيئة شبه قضائية، ولا تقدم سوى توصيات فقط. وهذا يعني الاتجاه بمسار أكثر رقيا فيما يتعلق بتعزيز وحماية حقوق الانسان. لأنه لا قيمة من وجود الحق دون وجود آلية حماية تمنع من الاعتداء عليه.

هناك من يرى ان إنشاءها ينطلق من بعدين أولهما قانوني بمعنى ان المحكمة توفر حماية قانونية لحقوق الانسان على الصعيد الإقليمي كونها ضمانة حقوقية فاعلة والآخر اداري هيكلي فالجامعة العربية تفتقر لنظام مؤسسي شامل لحماية حقوق الانسان ما يعني ضرورة سد هذه الثغرة القانونية.

هذه المحكمة ليست بديلا عن القضاء الوطني للدول الأعضاء وإنما إحدى الأدوات الإضافية لحماية حقوق الانسان وهذا لا يعني انها تتدخل في شؤون الدول. كما انه يُعول عليها في أن تؤسس السوابق القضائية المرشِّدة لتشريعات حقوق الإنسان بما يفضي لوحدة تشريعية بين الدول الأعضاء لاسيما انها لا تشابه المحاكم الدولية الأخرى التي أنشئت في مناخات تختلف ظرفيا وسياسيا وثقافيا عن المجتمعات العربية.

ومن باب الموضوعية يجب التنويه هنا بوجود تحفظات وملحوظات لدى بعض المنظمات الحقوقية على النظام الأساسي للمحكمة والتي تتلخص في “عدم إتاحة الإمكانية للأفراد بالادعاء أمام المحكمة، والسماح بذلك فقط للدول ولمنظمات المجتمع المدني المعترف بها من قبل الدول نفسها، ومدة ولاية قضاة المحكمة وكيفية اختيارهم، وآليات التقاضي نفسها، ومقر المحكمة، وغيرها”. ويرى بعض الحقوقيين كذلك ان النظام الأساسي للمحكمة العربية يتعارض مع الأنظمة الأخرى التي تعتمدها المحاكم الإقليمية والدولية لحقوق الإنسان، سواء لجهة السماح للأفراد باللجوء الى المحكمة الأوروبية أو السماح لمنظمات حقوقية بالقيام بذلك.

كما ان البعض الاخر يردد ان النظام الأساسي لا يتسق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان وان المحكمة لن تكون أداة فعالة بما في ذلك المسائل المتصلة باستقلال المحكمة وقضاتها، والقانون المطبق واختصاص المحكمة، ومقبولية القضايا.

وعلى أي حال كل ما سبق نقاط أثيرت ولا زالت تُتداول وارى انه من الحكمة الاطلاع عليها وفحصها ودراستها من قبل المعنيين والإجابة عنها قبولا او تفنيدا حتى لا يتعثر تطبيق النظام.

صفوة القول: تشكيل هذه المؤسسة الحقوقية العدلية يُعد نقلة نوعية والمأمول ان تدفع المحكمة العربية لحقوق الانسان بواقع جديد يكرس العدالة ويتجاوز تراكمات الانتهاكات التي عاشتها الكثير من الدول العربية عبر وضع آليات لعملها تستوعب مكونات مجتمعاتها ومقوماتها بتنوعها الثقافي والاجتماعي ومراعاة تعددها الاثني والمذهبي فضلا عن الديني.


المصدر: صحيفة الرياض العدد 17382 مقالة لـ د. زهير الحارثي